الأسبقيات الدبلوماسية بين التصلب والإستثناء

من المتعـارف عليه أن قواعد الأسبقية بين أعضاء السلك الدبلوماسى تعتبرملزمة ويجب احترامها بين أعضاء الهيئات الدبلوماسية المعتمدة فى الدولة المضيفة ، وقد استقرت هذه القواعد من خلال المعاهدات والإتفاقات الدولية بحيث أصبحت تقليد أوعرف واجب الالتزام به خلال المناسبات الوطنية أوالرسمية

فرئيس البعثة الدبلوماسية أو المندوبية أو رئيس المفوضية أو القاصد الرسولى أو القائمين بالأعمال تتحدد أسبقياتهم إعتبار من تاريخ وساعة وصولهم للدولة المضيفة ، كما تتحدد أيضا على أساس هذه الأسبقيات أسبقياتهم فى تقديم اوراق الإعتماد إلى رئيس الدولة أو إلى وزير الخارجية ويعتبر تاريخ وساعة تقديم اوراق الإعتماد هى المعيار الرسمى للأسبقية الدبلوماسية وعلى إثرها يتمتع المبعوث الدبلوماسى بالحصانات والامتيازات ويبدأ فى ممارسة مهامه بصفة رسمية فى الدولة المضيفة

ومن خلال تسلسل وتتابع هذه الأسبقيات بين رؤساء البعثات الدبلوماسية وفقا لسلم درجاتهم أوصفة قبولهم كسفراء أو وزراء مفوضين أو مندوبين تتولى إدارة المراسم بوزارة خارجية الدولة المضيفة ترتيب هذه الأسبقيات وفقا لما تقضى به قواعد البرتوكول المتبعه وبما لا يخالف شروط وقواعد اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية أو أية إتفاقيات ثنائية موقعة بين الطرفين

ومن خلال هذا التداخل بين الأسبقيات بين رؤساء البعثات الدبلوماسية المعتمدين فى الدولة المضيفة يتم من قبل وزارة خارجيتها منح صفة عميد السلك الدبلوماسى لأقدم هؤلاء السفراء اللهم الا اذا كانت هناك موانع سياسية تحول دون منح هذه الصفة كأن يكون اقدم السفراء لا تعترف كثير من الدول بدولته كما هو الحال مع دولة اسرائيل فيتـم اللجـوء عندئـذ الى منحها الى من يليه فى قائمة الأسبقية

وبالطبع تتمتع زوجات رؤساء البعثات السياسية بهذه الاسبقيات عند حضورهن المناسبات او اللقاءات الرسمية التى تنظم من قبل الدولة المضيفة وفقا لما يتمتع به أزواجهن من أسبقيات ، غير أن هذا لا يطبق على الأزواج الرجال إذا كانت زوجاتهم فى مقام رئيس البعثة الدبلوماسية حيث تمنح الأسبقية فى هذه الحالة للشخص الثانى الذى يلى فى الرتبة الدبلوماسية رئيس البعثة الدبلوماسية المعتمدة

أما تحديد الأسبقيات فيما يتعلق بالقائمين بالأعمال فإننى أود هنا أن أفرق بين نوعين من القائمين بالأعمال فهناك ” قائم بالأعمال أصيل” يترأس البعثة الدبلوماسية بصفة رسمية عن طريق كتاب إعتماد موجه من وزير خارجية الدولة المرسلة إلى وزير خارجية الدولة المضيفة “وليس من رئيس دولة الى رئيس الدولة كما فى حالة إعتماد السفراء ” ويعامل القائم بالاعمال الاصيل  هذا بدرجة أقـل من درجة السفير أو المفوض أو المندوب وذلك لعـدة أسباب نكاد نجملها  إما فى  تدنى مستوى التمثيل الدبلوماسى بين الدولتين ،  ( دون الخوض فى شرح أسباب وتفاصيل هذا التدنى التى لا يتسع المجال هنا للخوض فيها )  أو تطبيقا لمبدأ المعاملة بالمثل  … وتتحـدد أسبقية هؤلاء القائمين بالأعمال ” الأصلاء ” وفقا لأسبقية قبول أوراق اعتمادهم من قبل وزير الخارجية

 النوع الثانى من القائمين بالأعمال هم ” القائمين بالأعمال بالوكالة أو  بالإنابة ” وهم من توكل اليهم مهمة الإشراف على تسيير أمور البعثة الدبلوماسية فى حالة غياب السفير أو المفوض أو المندوب أو القائم بالأعمال الأصيل عن البعثة الدبلوماسية لأى سبب من الأسباب ، وهؤلاء يعتبرون فى درجة أقـل من مستوى القائمين بالأعمال الأصـلاء ويتم حصولهم على صفة القائـم بالأعمال بالإنابة فقـط عن طريـق كتـاب موجه ( مذكرة شفوية ) من رئيس البعثة الدبلوماسية المعتمدة الى وزارة خارجية الدولة المضيفة يخطرها فيها بمغادرته مقـرعمله وبإحلال من يليه فى الرتبة الدبلوماسية كقائم بالأعمال بالإنابـة محله…وغالبا ما يتولى القائم بالأعمال بالإنابة أمور البعثة الدبلوماسية لفترة  قصيرة أو طويلة وإلى حين عودة السفيرالاصيل او تعيين سفير جديد   او القائم بالاعمال الأصيل ، والقائمين بالأعمال بالإنابة تتحـدد أسبقياتهم فيما بينهم داخـل الدولة المضيفة وفقـا لتواريخ إبـلاغ وزارة خارجية الدولة المضيفة بهم كقائمين بالأعمال بالوكالة

كما يسرى على باقى اعضاء السلك الدبلوماسى فى البعثات المعتمدة لدى الدولة المضيفة نفس نظام تسلسل أو تدرج الأسبقيات بين موظفىها ، وتبلغ وزارة خارجية الدولة المضيفة بأى تنقـلات أو تعديـلات أو ترقيات فى درجات الدبلوماسيين فى حينه ، وعـادة ما تصدر إدارة المراسم أو إدارة التشريفات والرتوكول بوزارة خارجية الدولة المضيفة بصفة دورية كتيبـا خاصا  يسمى ب ” قائمة السلك الدبلوماسى والقنصلي ”  يتضمن اسماء الدبلوماسيين والقناصل ومندوبي الامم المتحدة والعاملين الاداريين والفنيين مصنفين حسب صفاتهم وتواريخ تسلمهم لاعمالهم في بعثاتهم وعناوين مقاراتهم وهواتفهم كما تحـدد فيه  تلقائيا وفقا لما تضمنه هذا الكتيب من معلومات ما يسمي  في العرف الدبلوماسي ( بالأسبقيات الدبلوماسية ) عند دعوتهم لحضورالمناسبات الرسمية أومناسبات الأعياد الوطنية للدولة المضيفة ……إضافة الي تضمن هذا الكتيب صفحات أخـرى تخصص لكادر وزارة خارجية الدولة المضيفة تتضمن أسماء الادارات المتخصصة بها وأسماء مـدراء هـذه الإدارات أو من ينـوب عنهم وصفاتهم وأرقـام هواتفهـم

غير أن هذه الأسبقيات بين أعضاء السلك الدبلوماسى المعتمدين فى الدولة المضيفة لا يتم تحديدها على أرض الواقع بهذه السهولة التى تم توضيحها ، وغالبا ما يعجـز رجـال البروتوكول أو المراسم خلال بعض المناسبات عن تحديدها بصورة دقيقة او مرضية ولا يعفيهـم هذا من الوقـوع فى أخطـاء قـد يترتب عليها حرج سياسى بين الدولة المضيفة وبعض البعثات الدبلوماسية المعتمدة لديها

ولهذا يجب أن يتسلح رجـل البروتوكول بنوع من الحـس الدبلوماسى أو الثقافة الدبلوماسية أو قـل عنها اللباقـة أو الكياسة  التى تتيح له حسن التصرف فى الموافـف المحرجة والتى قـد تقتضى منه الخـروج عن النص الحرفى للأسبقيات اذا ما رأى ان نتائج التصلب فى تطبيقها قد تخلق ازمة أو مشكلة أو إحراج ما ، وبالتالى عليه ان يلجأ فى بعض الأحيان ” للاستثنـاء ” اذا ما رأى أن ذلك ضروريا ولا يربـك فى نفس الوقت النظـام أو التقليـد المتبع ، وهـذا ” الإستثنـاء ” مطلوب خلال مواقف معينه وهو تصرف يتميز به الدبلوماسى فى المواقف الحرجة ويعتبر من المقومات الاساسية للدبلوماسية الى درجة اننا احيانا نصف حتي الرجل العادى عندما يقوم بأى تصرف ناجح فى مواجهة أى أزمة طارئة أو مشكله ما بأنه ” دبلوماسي ” تصرف بحكمة أو بدبلوماسية وهذا الحس أو التصرف الاستثنائى الذى يجب ان يتميز به موظف المراسم ليس حكرا عليه وحده ،فقد يتحلى بها الموظف العادى كما يتحلي بها العامل او التاجر او شرطى المرور او الجوازات او الجمارك

ومثال على ذلك لنفرض ان إمرأة ليبية تحمل الهوية الليبية قادمة من الخارج وبرفقتها إبنها الذى لم يتجاوز الخامسة من عمره ويحمل هوية أجنبية … والتعليمات لدى شرطة الجوازات تقضى بأن تقف الأم وأبنها فى صفين منفصلين مختلفين من أجل الحصول على سمات الدخول  كما هو متبع فى العديد من المطارات ( صف لليبيين وآخـر للأجانـب ) … هنا على شرطى الجوازات المكلف بمنح سمات الدخول لليبيين عندما تقف أمامه هذه الأم الليبية وطفلها الأجنبى  عليه ألا يتصلب فى تنفيذ التعليمات وأن يتصرف بحكمة وأن يستثنى طفل المرأة الليبية الصغير من الوقوف مع طابور الأجانب للحصول على سمة الدخول ويقوم بإنهاء إجراءاته مع إجراءات الأم الليبية 

وإذا كان المواطن العادى كما اسلفنا في بعض الأحيان يتحلى بحسن التصرف  وباللباقة الدبلوماسية  فى مواجهة المواقف المحرجة أو المربكة فمن باب أولى أن يتحلى بها الموظف الدبلوماسى الذي تسند اليه مهمة البروتوكول  من قبل دولته

 وما حدث معى كقائـم بالأعمال باليونـان عام 1979 من حرج دبلوماسي يدخـل ضمن هذا الإطـار وذلك عندما وجهـت لى الدعـوة كقائم بأعمال السفارة الليبية باليونان من قبل وزارة الخارجية اليونانية لحضور مراسـم الإحتفـال بتوقيع إتفاقية تأسيس ” المصرف العربى اليونانى ”  الذي كان قد أسس بمشاركة بين ثلاث دول هى ” ليبيا  – الكويت  – اليونان  ” وكنت مكلفا حينها بحكم موقعي كرئيس للبعثة الليبية  الدبلوماسية باليونان بتمثيل دولتي فى حضور مراسم هـذا الحدث الإقتصادي الهام – بينما مثل الكويت في تلك المناسبة سفيرها لدي اليونان السيد عبدالله البلهان –واليونان كانت ممثلة بحضور وزيـر التنسيق اليونانى السيد ميتسوتاكيس

وعنـد جلوسنا كشركـاء ثلاثة فى هـذه المناسبة فوجئـت بوجـود مقعـدى خلـف مقعـدي السفيـر الكويتى والسيد وزير التنسيق اليوناني وليس بمحاذات مقعديهما ، فأثـارهـذا الموقف غضبى ورفضت  قبوله أمـام الجميع وطالبـت موظف البرتوكول ان يقوم بتعديـل وضعيـة مقعـدى وبأن يكون فى نفس وضعيـة مقعـد السفيرالكويتي ومقعد وزير التنسيق ، وتطـور النقاش بينى وبينه محاولا إقناعي باني في درجة قائم بالأعمال وليس سفير وان مقعـدي فى هذه المناسبة يجب ان يكون في الخلف ضمن مقاعد القائمين بالاعمال المدعويين  طبقا لبرتوكول الاسبقيات الدبلوماسية المتعارف عليه ، وحاولـت جاهدا إقناعـه بأننـى  في هذه المناسبة بالذات مدعـو لحضورهذا الحدث كشريـك من ضمن ثلاثة شركاء فى تأسيس هـذا المصرف ( المصرف العربي اليوناني ) لأمثل دولتى على قـدم المساواة مع الشركـاء ولست مدعوا وفقـا للأسبقيات الدبلوماسية اليونـانية للسفراء أو القائمين بالأعمال ، ويجـب بروتوكوليـا أن يتساوى فيهـا مقعـدي مع مع مقاعـد شركائي نــدا للنــد ….ولكنه أبي واستكبر مصرا على موقفـه ، وأعتبـرت ذلك إهانـة لدولتى وانسحبـت من الإحتفـال ورجعـت غاضبا في سيارتي  الي مبني السفارة دون حضور افتتاح  مراسم الاحتفال

ومـا إن إحتـوانى مبنى السـفارة حتى أستلمـت هاتفـا من مديـر إدارة المراسم بوزارة الخارجيـة اليونانيـة يعرب عن اسفه لما حدث ويعتـذرعن سوء الفهم  الذي حدث من قبل موظف البروتوكول ويفيدنى بأنه  قـد تـم تعديـل مقعـدى ليكون مباشرة على يمين مقعد السيد وزيـر التنسيق اليوناني ويكون مقعد سفير دولة الكويت علي شماله وطلب مني الرجوع فورا حتي لا تتعطل مراسيم توقيع البرتوكول التى تقتضي حضوري رسميا

والحقيقه أنه بسبب هـذا  التصلب والعناد من قبل موظف المراسم كانـت قـد تأجلـت مراسم التوقيـع على إتفاقية  تأسيس المصرف وإلى حين حضورى، وكان لدعـم الأخـوة أعضاء الوفد الليبى وعلى رأسهم الأستاذ عبد الله السعودى مندوبا عن  المصرف الخارجى الليبى أثـره القـوى فى دعـم موقفـى هـذا والتمسك بضرورة حضوري

وهذا التصلب الذى حدث من موظف البرتوكول كـاد أن يثيـر أزمة بين ليبيا واليونان لكونه شكل إهانـة لممثل الدولة الليبية التى يجـب ان ينظـر لممثلها خـلال ذلك الظـرف الخاص بالـذات كشريك يجـب أن يعامـل على قـدم المساواة مع باقـى الشركـاء بصرف النظـر عـن موقعـه فى قائمة الأسبقيات الدبلوماسية المعتمـدة لدي وزارة الخارجية اليونانية….وهذه الحادثة بالذات تؤكد على اهمية أن يتمتع موظف البروتوكل من بالمرونة و اللباقة وحسن تصرف في مواجهة مثل هذا الحدث

About Ashour 66 Articles
A Libyan Carrier Diplomat - Writer & Journalist