النمسا… كمـا عرفتهــا

 عندما تم تعيينى بالنمسا كوزير مفوض عام 1999 ضمن الوفد الليبى فى منظمة اليونيـدو التابعـه للأمم المتحدة كانت لدى فكرة مسبقةعن تعصب كل من الدولتين ” المانيا والنمسا ” للغتهم الأم ” الألمانيـة ” ، ولا أدرى حينها لماذا ربطت بين تعصبهـم للغتهـم الألمانيـة وتوقـعي لتعصبهم أيضا لديانتهـم المسيحيـة ، كانت هذه مجرد هواجس و توقعـات ترسبت فى ذهني خـلال تجربتى فى الإقامة باليونـان التى لمست خلالهـا تعصبا كبيرا على كل المستويات ضد المسلمين والديانة الإسلامية ، إلى درجة أننى كنت أجبر أحيانا – رغما عن عدم تعصبى – إلى الدخول مع بعض القساوسة فى مناقشات ومجادلات عقيمة أو مكاتبات مع الصحف ووسائل الإعلام اليونانية المختلفة المشبعه بروح  هذه الكراهية .

وأذكر كمثال على ذلك من خلال ماتنشره الصحف أنها مثلا عندما يقوم يونانى مسلم بأرتكاب مخالفة أو جنحة أو أى فعل فاحش تركز على التشهير بديانة هذا المسلم اليوناني وتركز  بوضوح على الربط بين اسمه وديانته ، بينما إذا ارتكب أى يوناني مسيحى مثل هذا  الفعل الفاحش  لا تذكر ديانته على الاطلاق ، وكنت اتضايق  جدا من هذا التعصب واقوم  فى بعض الأحيان بالرد على بعض من هذه الصحف ولكن للأسف كانت جميعها تتجاهـل هذه الـردود ، وأذكر  ضمن هذا الإطار أيضا أن إحدى القنوات اليونانية خلال الثمانينات أجرت مقابلة مع أحد المسنين المسلمين اليونانيين الذي  كان قد قبض عليه متهما بأنه هدد إبنه بالقتل لأنه أرتـد عن الإسلام وأعتنق المسيحية ،وسخرت منه القناة فى حوار مطول بشكل مهين لكرامته كرجل مسن متعمدة الطعن العلني في شريعتهالتي كان العجوز يدافع عنها بشراسة كانت موضع سخرية من المتحاورين معه .

والحقيقة فـإن عددا من القساوسة اليونانيين وكذلك بعض من العرب الارثذوكس الذين ولدوا وترعرعوا وتعلموا وتثقفوا فى البلاد العربية ، ساهموا نتيجة ترسبات عقد نفسية لديهم ، بدور بارز فى تأجيج وبث روح الكراهية هذه ، وكان المفروض عليهم أن يقوموا بعكس ذلك بتبصير المجتمع اليونانى بأن المعاناة التى واجهها الشعب اليونانى خلال فترة حكم الدولة العثمانية لأراضيهم  لاعلاقة لها بالدين الإسلامي ، وأن المسلمين أنفسهم في البلاد العربية وغيرها قد مروا بنفس المعاناة مع الاستعمار العثمانى الذى لا يختلف عن اي نوع من أنواع الإستعمار  البريطانى أو البلديكي او الايطالي  اوالفرنسى للبلاد العربية

تحتوي هذه الصورة على سمة alt فارغة; اسم الملف هو النصب-الاسلامي.jpg

على اى حـال كان توقعى عندما قدمت للنمسا، كما أسلفت، أن أواجه نفس ما واجهته باليونان من تحيـز ضد المسلمين ، إلا أننى فوجئت بما لم يكن في الحسبان وهو إنتفـاء وجـود مثل هذا التعصب لدب السلطات الرسمية للدولة  وكذلك عدم وجوده بين مختلف طبقات وطوائـف المجتمع النمساوى . وأذكر ضمن هذا الإطار أنه أثناء  إقامتى بالعاصمة فيينا ، قادتنى قدماى صدفة برفقة أسرتي فى جولـة فى إحـدى الحدائق  العامة القريبة من محل سكناي  ،وكانت هذه الحديقة الخضراء الجميلة يطلق عليها الحديقة التركية ، تتربع على إحدى قمم العاصمة فيينا مطلة على شاطىء نهـر الدانوب ، تتناثر فى وسط هذه الحديقة وعلى مختلف  أطرافها مختلف أنواع الزهور والورود ، وكانت تتوسطها نافورة كبيرة جميلـة تحيط بها مصطبة رخامية  بيضاء تتوزع علي جنباتها صنابير تتدفق منها المياه الصافية العذبة ، يرتوى من مياهها الزوار   وطيور الحديقة ، ولفت نظري وجودكتابة عربية منحوته على سطح الدائرة الرخامية ، بالخـط العريض للأية القرآنية الكريمة “وجعلنا من الماء كل شىء حى “… يالله ….يالله ..هكذا نطقنا جميعا أنا وأسرتى فى تعجب ودهشة من رؤيتنا لهذه  المفاجأة الغير متوقعه .. الآية الكريمة مطبوعة فى قلب ذلك المرمر منذ مئات السنين .

وضحـك أحد النمساويين الذي كان يشاهدنا عن قرب من تعجبنا غند رؤيتنا لهذه الآية الكريمة  منحوته على ذلك الرخام الأبيض ، فاقترب منا مبتسما ومتطفلا  فى نفس الوقت قائلا  : أنتم مسلمون أليس كذلك ثم واصل حديثه دون أن غير ينتظر منا اجابة على استفساره قائلا  : أنا  أعـرف أن نقش هذه الكلمات بلغتكم العربية على هذه النافورة قد أعجبكم ، إنها تمثل جزء من تاريخنا ، نحن لم نهدمها رغما عن أنها تمثل حقبة إستعمارية ، بل أبقينا عليها ونقوم بشرح معناها للزوار وللسياح ولطلبة المدارس الذين يزورون هذه الحديقة…  وفهى من المخلفات الجميلة  التي خلفها الإستغمار  العثماني بعد هزيمتهم وانسحابهم من هذا الموقع ، ولكننا نعتز بهذه الحديقة وبهذه النافورة كما نعتز بالآية القرآنية التى نحتت فوق رخامها حيث انها تمثل النقطةالتي توقـف فيها العثمانيون عـن مواصلة غزوهم لعاصمتنا فيينا ، وانسحبت آخر ذيولهم من هذا  المكان بعد أن هزمزا هزيمة منكرة ، وتركوا لنا بعد إنسحابهم هذا الأثر الجميل الذى حافظنا عليه عبرة وتذكرة للأجيال القادمة  ..

تعتبر مدينة فيينا العاصمة النمساوية النقطة الأكثر عمقـاً التي بلغتها حركة الفتوحات التركية في أوروبا عام 1683 حيث دارت على مشارف العاصمة فيينا، فوق هذه القمة التى توجد بها  الحديقة التركية رحى أهـم الحـروب الأوروبية، التى كسرت الحصار التركي الطويل على فيينا والتى انتهت بهزيمة العثمانيين وانسحابهم وأفـول امبراطوريتهـم .

وتذكرت وأنـا أنصت بكل إهتمام لشـرح المواطن النمساوى كيـف أننـا في بلادنا بجهلنا وغبائنا  وتعصبنا الأسود الحاقـد كنا قد حطمنا ودمرنا كل الآثار التى كانت خير شاهـد وناطـق حي على المراحل الإستيطانيـة والمراحل الإستعماريـة التى مـرت بها بلادنــا .

تحتوي هذه الصورة على سمة alt فارغة; اسم الملف هو الفارس-المغوار.jpg

وتحتفـظ العاصمـة النمساويـة ، بالإضافـة إلى هذه الحديقـة ونافورتهـا الجميلـة بالعـديـد من الآثـار الأخرى التي خلفها الإستعمار العثماني ، مثل تمثـال الفـارس التركي المغـوار، الذى يقـال أنه تمكن من إختراق كل التحصينات الأوروبيـة الكثيفـة والتسلل ممتطيـا صهوة جواده العربى إلى قلب العاصمة فيينـا.

وقد وضعت زيارتى  لتلك الحديقة التركية فى العاصمة النمساوية فيينا ، وارتوائى من مياه نافورتها  العذبـة المزينـه بنقوش تلك  الآيـة الكريمة  “و جعلنا من الماء كل شئ حي ”  نهايـة لتخوفى من أن أجـد فى النمسا ما وجـدتـه فى اليونـان من تعصب ضـد الاسلام والمسلمين ، كما شجعتنى تلك الزيارة على دراسة تاريـخ هـذا البلد ومتابعة سلوكيات سكانه على مختلف طوائفهم ومعتقداتهم خاصة وأن النمسا قدمـت للعالم العربي والاسلامى أعظم هدية وهو المستشرق النمساوي الشهيـر ” ليوبولد فايس” الذى ولـد يهوديا  عام 1900 في النمسا  ودفن مسلما عام 1992 في غرناطه بإسبانيا تحت أسم “محمـد أسـد”، وهو كاتب وصحفي ورحالة ومفكر ومصلح إجتماعى ودبلوماسي ، درس الفلسفة في جامعة فيينا وعمل مراسلاً صحفياً وطـاف العديـد من دول العالم الإسلامى ، بما فى ذلك زيارته إلى بيت الله الحرام بمكة المكرمة، وزيارته لليبيا ولقائه بالشهيد عمر المختار وله مؤلفات وإصدارات إسلامية كثيرة ، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر : –

– منهاج الإسلام في الحكم.
– الإسلام على مفترق الطرق.
– الطريق إلى الإسلام.
– الطريق إلي مكة

كما ترجـم القـرآن الكريم الى اللغة الإنجليزية، وهو الذى قـال عن اليهـود الذى هو منهم  أنهـم “حرفـوا معاني التـوراه وأن البشـارة بمحمـد رغما عن هذا التحريف ما زالت موجودة في بعـض النسـخ الحاليـة منهـا.

النمسا بصفة عامة ” شعب و دولة ” لا تتحكم فيهم أى عقـد دينية أو تحيـزات عنصرية  ضـد الإسلام أو المسلمين ، جيث يتم التعامل مع مسلميها على قـدم المساواة ، شأنهم في ذلك شأن مسيخييها  او يهودها او اصخاب العقائد والديانات الأخرى ، ولا تضغط عليهم الدولـة بضغوطات منظورة أو غير منظورة  لتجبرهم علي تغييـر ديانتهـم أو أسمائهـم ، كما يحـدث فى عدد من الدول الأوربية المتعصبة التى تمارس ضغوطات على المقيمين فيها من غير ديانتها  التحول للديانة المسيحية للإقامة بها أو للحصول على جنسيتها .
ومن المعروف أن الإسلام  عندما دخـل إلى النمسا في العصور الوسطى عن طريق التجارة. لقى المسلمون فيها ترحـيباً ومعاملة حسنة واستقـروا فيها فى مستوطنات صغيرة فى جنوب المملكة وعملوا بها كجنود ، أو كعمال في البلاط الملكي أو مستشارين ماليين أو فنيين وفي  الربع الأول من عام 1782، أصدر القيصر “جوزيف الثاني” مرسومه المشهور عن  التسامح، الذي تم ضمن إطاره إنشاء أول مقبرة للمسلمين في  العاصمة النمساوية فيينا  .

وفي عام 1878 عندما تم تسليم منطقتي البوسنة والهرسك إلى مملكة ” النمسا – المجر ”  بناءً على قـرار إجتماع برلين ، كان المسلمون  حينها يشكلون ثاني أقوى مجموعة قومية في المملكة التي كانت تضم العديد من القوميات ، والتحق كثير من المسلمين فيها بالعمل في الجيش القيصري ،  حتى أن القيصر “جوزيف الأول” ، أنشأ لهم مسجدين للصلاة في الثكنات العسكرية بمدينة ” فيينا ” وعين إماما ومفتى  للإشراف على هذين المسجديـن .

وبنهاية عهد المملكة وإنفصالها إلي إقليمي البوسنة والهرسك، تقلص عدد المسلمين في النمسا بشكل متسارع ، إلا أن هذا التقلص فى أعدادهم  لم يمنعهم عام 1963 من تأسيس جمعية خيرية إجتماعية إسلامية وكذلك تشييد مسجد كبير بالقرب من ” جامعة فيينا ” ، ثم فى 1979 أصدرت وزارة التعليم والفنون الإتحادية النمساوية قـرارا بالموافقة على إنشاء هيئـة دينيـة رسمية إسلامية  تهـدف الى :

– تقديم الرعاية الروحية للمسلمين النمساويين ، والرعاية المدرسية لأطفالهم ، وتأهيل مدرسين ومدرسات لتدريس التربية الدينية والاهتمام العام بشئون أماكن الصلاة والدفن الخاصة بالمسلمين.

– تمثيل المسلمين النمساويين على مستوى الدولة في الإتحاد و الولايات والمقاطعات وأيضًا في الأحداث الدوليةودمج العمال الزائرين واللاجئين المسلمين في المجتمع النمساوي وحثهم على التسامح المتبادل والتفاهم بين أهل البلد والأجانب.

يتجاوز عدد المسلمين في النمسا طبقًا لآخر التقديرات  500.000 نسمة، يقيم منهم في فيينا وحدها قرابة 130000 شخص و يمثلون حوالى 7% من سكان النمسا ويتمتعون بإعتراف فريد من نوعه في أوروبا ومن خلال هذا الإعتراف بكيانهم تمكنوا من تأسيس هيئة دينية إسلامية كمرجعية للقانون العام تمثل المسلمين أمام هيئات المجتمع النمساوى، وتحرص على رعاية مصالحهم وتنقل آراءهم ورغباتهم.

وعن طريق هذه الهيئة تمكن المسلمون من تدريس حصة التربية الدينية لحوالي 40 ألف تلميذ وتلميذة مسلمة خلال العام الدراسي، بل أمكن أيضًا تنظيم الرعاية الدينية للمرضى المسلمين في المستشفيات النمساوية.

وتتميز النمسا في تعاملها مع الإسلام والجالية الإسلامية بموقف إيجابي فريد من نوعه. فقد جرت العادة على أن يدعو الرئيس النمساوي وأيضًا رئيس البرلمان وعمدة فيينا المسلمين لحضور حفل الإفطار الجماعي الذي يقيمونه في شهر رمضان المبارك من كل عام  كبرهان على احترام وتقدير المسؤولين في النمسا للجالية الإسلامية.

ويقام هذا الحفل في ” الهوفبورج ” مقر اقامة الرئيس النمساوي ، وفي البرلمان النمساوي وفي مبنى بلدية فيينا. ويمكن للضيوف المدعوين إقامة صلاة المغرب هناك أيضًا. ويعد هذا الأمر نموذجا واضحاً على قيام النمسا ومدينة فيينا بشكل خاص بمبادرات إيجابية تجاه الاسلام والمسلمين ، ولهذا تعد مدينة فيينا نموذجًا مثاليًا على احترام الإسلام والمسلمين؛ حيث نفذت المدينة العديد من الأعمال والإجراءات التي تظهر “حسن نيتها” تجاه المسلمين على مستوى أوروبا كلها  مثـل :

1-  تخصيص قطعة ارض بمساحة 34 ألف متر مربع للهيئة الدينية الإسلامية وبنـاء المقبرة الإسلامية بها في حي ”  ليسينج  ” بفيينا.

2- تسمية المدخـل الرئيسي لمبنى الأمم المتحدة في فيينا بإسـم  ” ميدان محمد أسـد ” تخليدا لذكرى المستشرق المسلم النمساوي الشهير ” ليوبولـد فايـس ” الذي أسلم وأطلق على نفسه إسـم ” محمد أسـد ” في بداية العشرينات.

3- كما نفـذت النمسا على الصعيـد الإتحادى العـديد من المشاريع والإجـراءات المختلفة مثل تعيين الأئمة في الجيش الإتحادي النمساوي وإنشاء المساجـد حتي داخل الثكنات العسكرية للمجندين المسلمين في فيينا. فضلاً عـن توفير الطعـام ” الحلال” لهم والذي يتم إعـداده وفقـاً للشريعة الاسلامية وغير ذلك من مقومات الحياة الإسلامية.

4- تسهيل احتفالات المسلمين بالأعياد الإسلامية وفي إقامة شعائرهم الدينية . وتجدرالإشارة هنا أن نذكر أيضًا أن النمسا كانت ، ولا زالت ضـد سياسة حظـر ارتـداء الحجاب في المدراس النمساوية.

وأخيرا  بعـد هذه الجولة بكم داخـل خبايا الإسلام فى النمسا، فإنه حـرى بنا أن نعتبر النمسا  التى يوجد بها حاليا  قرابة 87 مسجدا منها حوالى 27 مسجدا فى عاصمتها ”  جنة المسلمين في أوروبـا ” ، فـلا إضطهـاد من قبل الدولة ولا تمييز تمارسه الأغلبية المسيحية ضـد الأقليـة المسلمة فيها ، بخلاف الأقليات الإسلامية، في العـديد من دول القـارة الاوروبية العجـوز، مثل ما يحث في  ” اليونـان ، فرنسـا  ، هولنـدا  ، إيطاليـا. التى يعانى المسلمون فيها من سياسـة التمييز والإضطهاد العنصرى والدينى.

مشبعه أيضا بهذه الكراهية ، إلى درجة أن وسائل الاعلام بمختلف صورها وتواجهاتها عندما تقوم مثلا بنشر اى خبر عن أى يونانى مسلم يرتكب جريمة أيا كان نوعها او يقوم باى فعل فاحش تركز على التشهير بديانته وتضع أمام اسمه بما يلفت النظر جملة ” اليونانى المسلم ” بينما إذا ارتكب الفعل الفاحش  يونانى مسيحى لا تذكر ديانته، وكنت اتضايق من هذا التعصب والتحيز الممقوت واقوم بالرد فى بعض الاحيان على بعض الصحف ، ولكن للاسف كانت تتجاهل هذه الردود ، وأذكر أن إحدى القنوات اليونانية خلال الثمانينات أجرت لقاءا مع أحد المسنين المسلمين اليونانيين الذي أتهم من قبل رجال الأمن بأنه هدد بقتل إبنه  لأنه أرتد عن دينه الإسلامى  وأعتنق المسيحية وسخرت منه القناة فى حوار مطول معه بشكل مهين طعنت فيه فى الشريعة الاسلامية التى كان يدافع عنها ذلك العجوز .

والحقيقة فـإن أغلب القساوسة اليونانيين  وكذلك بعض الافراد من المسيحيين الارثذوكسيين العرب الذين ولدوا وترعرعوا وتعلموا وتثقفوا فى البلاد العربية ساهموا نتيجة عقد نفسية مترسبة لديهم  للأسف بدور مؤسف فى تأجيج روح الكراهية هذه ، وكان المفروض أن يقوموا بعكس ذلك بتبصير المجتمع اليونانى بأن الإضطهاد والمعاناة التى واجهها الشعب اليونانى على يد الأراك العثمانيين لاعلاقة لها بالإسلام  وأن المسلمين أنفسهم فى البلاد العربية  كانت لهم ايضا معاناتهم مع الاستعمار العثمانى والذى لا يختلف عن أى إستعمار مسيحى للبلاد الإسلامية .

تحتوي هذه الصورة على سمة alt فارغة; اسم الملف هو النصب-الاسلامي.jpg

على اى حـال كان توقعى عندما قدمت للنمسا، كما أسلفت، أن أوآجه نفس ما وآجهته باليونان من تحيز ضد المسلمين ، إلا أننى فوجئت بما لـم أكـن أتوقعـه وهو إنتفـاء وجـود هذا التعصب  بين مختلف طبقات وطوائـف المجتمع النمساوى.

وأذكر ضمن هذا الإطار أنه عند بداية تعيينى وإقامتى بالنمسا قادتنى قدماى  برفقة أسرتي فى جولـة فى إحـدى الحدائق  العامة القريبة من محل سكنى  بالعاصمة فيينا وكانت هذه الحديقة تتربع على شاطىء نهـر الدانوب ، لم ألمس بين زوارها من مواطنى النمسا  من يكره ” الإسلام “….. أو من يتعصب ضده بـل على العكس من ذلك قادنى مرافـقى النمساوى فى تلك الحديقـة الخضراء التى تتناثر فى وسطها وعلى جنباتها مختلف أنواع الزهور والورود إلى نافـورة كبيـرة جميلـة تتوسط الحديقة بنيت من الرخام الأبيض اللامع ، تحيط بها دائرة رخامية تتوزع فيها صنابير تتدفق منها المياه الصافية العذبة ، يرتوى منها  الزوار والطيور ،  وكتب عن طريق النحت على رخام  تلك الدائرة الرخامية التى تتفجر المياه عبر صنابيرها بالخـط العريض باللغة العربية  الأية القرآنية الكريمة “وجعلنا من الماء كل شىء حى”…

وضحـك مرافـقى النمساوى وهو يشاهدنى أقـرأ هـذه الآية الكريمة بتمعـن وإستغـراب وقال لى : أنا أعـرف معنى هذه الآيـة ونحن نقوم بشرح معناها للزوار وللسياح ولطلبة المدارس  الذين يزورون هذه الحديقة… ونحن نعرف أن هذه الحديقة وهذه النافورة هى من الآثار التى خلفها الإستغمار التركى بعد هزيمته وانسحابه من أراضينا ، ولكننا نعتز بهذه الحديقة وبهذه  النافورة  كما نعتز بالآية القرآنية التى نحتت فوق رخامها … حيث انها تمثل جزء من تاريخنا… ففى هذه الحديقة توقـف زحـف الأتـراك عـن مواصلة غزوهم لعاصمتنا  بعد أن هزمزا هزيمة منكرة  فى هذه المنطقة بالذات ، وتركوا لنا  بعد انسحابهم هذا الاثر الجميل الذى حافظنا عليه عبرة وتذكرة للأجيال القادمة .واستفدنا منه فى نفس الوقت كمزكز جذب للسياح  الذين يزورون بلادنا  فيتعرفون عبر هذه الاثار بصورة ناطقة وحية على تاريخ بلادنا …

تعتبر فيينا،النقطة الأكثرعمقـاً،التي بلغتها حركة الفتوحات العثمانية في أوروبا،عام 1683، حيث  دارت على مشارف العاصمة فيينا، رحى أهـم الحـروب الأوروبية، التى كسرت الحصار الطويل على فيينا والتى انتهت بهزيمة العثمانيين وانسحابهم وأفـول امبراطوريتهـم.

وتذكرت وأنا أنصت بكل إهتمام لشرح رفيقى النمساوى ، كيف أننا في بلادنا بجهلنا وغبائنا  كنا قد حطمنا ودمرنا كل الأثار التى كانت خير شاهدوناطق حي على المراحل الإستيطانية  والمراحل الإستعمارية التى مرت بها بلادنا .

تحتوي هذه الصورة على سمة alt فارغة; اسم الملف هو الفارس-المغوار.jpg

وتحتفـظ العاصمـة النمساويـة، بالإضافـة إلى هذه الحديقـة ونافورتهـا الجميلـة بالعـديـد من الآثـار الأخرى التي خلفها الإستعمار العثماني وخاصة مرحلة الحصار للعاصمة “فييينا “، مثل تمثـال الفـارس التركي المغـوار، الذى يقـال أنه تمكن من إختراق كافـة التحصينات الأوروبيـة الكثيفة والتسلل منفـرداً ممتطيا صهـوة جـواده العربى إلى قلب العاصمة فيينـا.

وقد وضعت زيارتى  لتلك الحديقة التركية فى العاصمة النمساوية فيينا ، وارتوائى من مياه نافورتها  العذبـة المزينـه بنقوش تلك  الآيـة الكريمة  ” و جعلنا من الماء كل شئ حي ”  نهاية لتخوفى من أن أجـد فى النمسا ما وجـدتـه فى اليونان من تعصب ضـد الاسلام والمسلمين، كما شجعتنى تلك الزيارة على دراسة تاريـخ هـذا البلد ومتابعة سلوكيات سكانه على مختلف طوائفهم ومعتقداتهم خاصة وأن النمسا قدمـت للعالم العربي والاسلامى أعظم هدية وهو المستشرق النمساوي الشهيـر “محمـد أسـد”  الذى ولـد يهوديـا في النمسا عـام 1900، تحـت أسـم “ليوبولـد فايـس” ودفــن مسلما في غرناطه بإسبانيا عـام 1992 تحت أسـم “محمـد أسـد”، وهو كاتب وصحفي ورحالة ومفكر ومصلح إجتماعى ودبلوماسي، درس الفلسفة في جامعة فيينا؛ وعمل مراسلاً صحفياً وطـاف  العديـد من دول العالم الإسلامى ، بما فى ذلك حجه الى بيت الله الحرام بمكة المكرمة، ومشاركته أيضا في الجهاد في ليبيا رفقة الشهيد عمر المختار .وله عدد كبير من الاصداراتالإسلامية القيمة ، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: –

تحتوي هذه الصورة على سمة alt فارغة; اسم الملف هو asad.png

– منهاج الإسلام في الحكم.
– الإسلام على مفترق الطرق.
– الطريق إلى الإسلام.
– رسالة القرآن
– الطريق إلى مكة وترجمة وتعليقات على صحيح البخاري

كما ترجـم القـرآن الكريم الى اللغة الإنجليزية، وهو الذى قـال عن اليهـود ” الذى هو منهم  أنهـم حرفـوا معاني التـوراه وأن البشـارة بمحمـد – رغما عن هذا التحريف – ما زالت موجـودة في بعـض النسـخ الحالية منهـا.

النمسا… كمـا عرفتهــا

 النمسا بصفة عامة ” شعب و دولة ” لا تتحكم فيهم أى عقـد دينية أو تحيـزات عنصرية  ضـد الإسلام أو المسلمين ، جيث يتم التعامل مع مسلميها على قـدم المساواة ، شأنهم في ذلك شأن مسيخييها  او يهودها او اصخاب العقائد والديانات الأخرى ، ولا تضغط عليهم الدولـة بضغوطات منظورة أو غير منظورة  لتجبرهم علي تغييـر ديانتهـم أو أسمائهـم ، كما يحـدث فى عدد من الدول الأوربية المتعصبة التى تمارس ضغوطات على المقيمين فيها من غير ديانتها  التحول للديانة المسيحية للإقامة بها أو للحصول على جنسيتها .
ومن المعروف أن الإسلام  عندما دخـل إلى النمسا في العصور الوسطى عن طريق التجارة. لقى المسلمون فيها ترحـيباً ومعاملة حسنة واستقـروا فيها فى مستوطنات صغيرة فى جنوب المملكة وعملوا بها كجنود ، أو كعمال في البلاط الملكي أو مستشارين ماليين أو فنيين وفي  الربع الأول من عام 1782، أصدر القيصر “جوزيف الثاني” مرسومه المشهور عن  التسامح، الذي تم ضمن إطاره إنشاء أول مقبرة للمسلمين في  العاصمة النمساوية فيينا  .

وفي عام 1878 عندما تم تسليم منطقتي البوسنة والهرسك إلى مملكة ” النمسا – المجر ”  بناءً على قـرار إجتماع برلين ، كان المسلمون  حينها يشكلون ثاني أقوى مجموعة قومية في المملكة التي كانت تضم العديد من القوميات ، والتحق كثير من المسلمين فيها بالعمل في الجيش القيصري ،  حتى أن القيصر “جوزيف الأول” ، أنشأ لهم مسجدين للصلاة في الثكنات العسكرية بمدينة ” فيينا ” وعين إماما ومفتى  للإشراف على هذين المسجديـن .

وبنهاية عهد المملكة وإنفصالها إلي إقليمي البوسنة والهرسك، تقلص عدد المسلمين في النمسا بشكل متسارع ، إلا أن هذا التقلص فى أعدادهم  لم يمنعهم عام 1963 من تأسيس جمعية خيرية إجتماعية إسلامية وكذلك تشييد مسجد كبير بالقرب من ” جامعة فيينا ” ، ثم فى 1979 أصدرت وزارة التعليم والفنون الإتحادية النمساوية قـرارا بالموافقة على إنشاء هيئـة دينيـة رسمية إسلامية  تهـدف الى :

– تقديم الرعاية الروحية للمسلمين النمساويين ، والرعاية المدرسية لأطفالهم ، وتأهيل مدرسين ومدرسات لتدريس التربية الدينية والاهتمام العام بشئون أماكن الصلاة والدفن الخاصة بالمسلمين.

– تمثيل المسلمين النمساويين على مستوى الدولة في الإتحاد و الولايات والمقاطعات وأيضًا في الأحداث الدوليةودمج العمال الزائرين واللاجئين المسلمين في المجتمع النمساوي وحثهم على التسامح المتبادل والتفاهم بين أهل البلد والأجانب.

يتجاوز عدد المسلمين في النمسا طبقًا لآخر التقديرات  500.000 نسمة، يقيم منهم في فيينا وحدها قرابة 130000 شخص و يمثلون حوالى 7% من سكان النمسا ويتمتعون بإعتراف فريد من نوعه في أوروبا ومن خلال هذا الإعتراف بكيانهم تمكنوا من تأسيس هيئة دينية إسلامية كمرجعية للقانون العام تمثل المسلمين أمام هيئات المجتمع النمساوى، وتحرص على رعاية مصالحهم وتنقل آراءهم ورغباتهم.

وعن طريق هذه الهيئة تمكن المسلمون من تدريس حصة التربية الدينية لحوالي 40 ألف تلميذ وتلميذة مسلمة خلال العام الدراسي، بل أمكن أيضًا تنظيم الرعاية الدينية للمرضى المسلمين في المستشفيات النمساوية.

وتتميز النمسا في تعاملها مع الإسلام والجالية الإسلامية بموقف إيجابي فريد من نوعه. فقد جرت العادة على أن يدعو الرئيس النمساوي وأيضًا رئيس البرلمان وعمدة فيينا المسلمين لحضور حفل الإفطار الجماعي الذي يقيمونه في شهر رمضان المبارك من كل عام  كبرهان على احترام وتقدير المسؤولين في النمسا للجالية الإسلامية.

ويقام هذا الحفل في ” الهوفبورج ” مقر اقامة الرئيس النمساوي ، وفي البرلمان النمساوي وفي مبنى بلدية فيينا. ويمكن للضيوف المدعوين إقامة صلاة المغرب هناك أيضًا. ويعد هذا الأمر نموذجا واضحاً على قيام النمسا ومدينة فيينا بشكل خاص بمبادرات إيجابية تجاه الاسلام والمسلمين ، ولهذا تعد مدينة فيينا نموذجًا مثاليًا على احترام الإسلام والمسلمين؛ حيث نفذت المدينة العديد من الأعمال والإجراءات التي تظهر “حسن نيتها” تجاه المسلمين على مستوى أوروبا كلها  مثـل :

1-  تخصيص قطعة ارض بمساحة 34 ألف متر مربع للهيئة الدينية الإسلامية وبنـاء المقبرة الإسلامية بها في حي ”  ليسينج  ” بفيينا.

2- تسمية المدخـل الرئيسي لمبنى الأمم المتحدة في فيينا بإسـم  ” ميدان محمد أسـد ” تخليدا لذكرى المستشرق المسلم النمساوي الشهير ” ليوبولـد فايـس ” الذي أسلم وأطلق على نفسه إسـم ” محمد أسـد ” في بداية العشرينات.

3- كما نفـذت النمسا على الصعيـد الإتحادى العـديد من المشاريع والإجـراءات المختلفة مثل تعيين الأئمة في الجيش الإتحادي النمساوي وإنشاء المساجـد حتي داخل الثكنات العسكرية للمجندين المسلمين في فيينا. فضلاً عـن توفير الطعـام ” الحلال” لهم والذي يتم إعـداده وفقـاً للشريعة الاسلامية وغير ذلك من مقومات الحياة الإسلامية.

4- تسهيل احتفالات المسلمين بالأعياد الإسلامية وفي إقامة شعائرهم الدينية . وتجدرالإشارة هنا أن نذكر أيضًا أن النمسا كانت ، ولا زالت ضـد سياسة حظـر ارتـداء الحجاب في المدراس النمساوية.

وأخيرا  بعـد هذه الجولة بكم داخـل خبايا الإسلام فى النمسا، فإنه حـرى بنا أن نعتبر النمسا  التى يوجد بها حاليا  قرابة 87 مسجدا منها حوالى 27 مسجدا فى عاصمتها ”  جنة المسلمين في أوروبـا ” ، فـلا إضطهـاد من قبل الدولة ولا تمييز تمارسه الأغلبية المسيحية ضـد الأقليـة المسلمة فيها ، بخلاف الأقليات الإسلامية، في العـديد من دول القـارة الاوروبية العجـوز، مثل ما يحث في  ” اليونـان ، فرنسـا  ، هولنـدا  ، إيطاليـا. التى يعانى المسلمون فيها من سياسـة التمييز والإضطهاد العنصرى والدينى.

About Ashour 66 Articles
A Libyan Carrier Diplomat - Writer & Journalist