قصتى مع كتاب “نماذج من جرائم القذافى” تأليف المرحوم / عبد الناصر مسعـود دريـزة

رأيت داخل هذا المعسكر ”  المسمى معسكر السابع من ابريل ” جسدا بشريا عاريا الا القليل ، يتدلى من سطح إحدى الغرف تنزف وتتقاطر منه الدماء  لتملأ الارض ، الأرجل قد شدت بوثـاق إلى الأعلى ، والرأس يتدلى إلى أسفل ، وعصبة من أولي القوة، من مخابرات القذافى وأعوانه من الكلاب المسعورة، يتحولقون حول فريستهم البشرية، يمارسون عليها طقوسهم الإرهابية ، فهذا ممسك بسوط أفريقي، يجلد به الفريسة وآخر شاهر مسدس يهدد به الجسد الخائر للضحية واخر يركل جسده المتدلي بقدمه ويبصق عليه موجها له سيل من اللعنات والإهانات ورابع ممسك بأوراق يطلب من الضحية التوقيع على اعتراف ما  

كانت هذه فقرات من كتاب ” نماذج من جرائم القذافى “بقلم المرحوم عبد الناصر مسعود دريزة نقلت لنا صور حية ومرعبة لأقسى وأبشع جرائم التعذيب المؤلمة التى ارتكبت فى حق مواطنين ليبيين تحت سمع وبصر مؤلف هذا الكتاب كشاهد عيان ،ويعـد هذا الكتاب الذي شكل حين صدوره صفعة قوية ومؤلمة للنظام الليبى السابق لما تضمنه من حقائق مرعبة عن أسوأ جرائم التعذيب الوحشي التى مورست داخل أسوار ومعتقلات معسكر السابع من ابريل فى بنغازى الذي اطلق عليه سكان المدينة  أسم ” حصن الباستيل

وظل أسم مؤلف هذا الكتاب ، الذي يعد من أهم  إصدارات الحركة الوطنية الليبية المعارضة فى الخارج طي الكتمان وسرا مطمورا منذ تاريخ اصداره أواخر عام 1983 وحتى عام 2012 وذلك بسبب ظروف مرحلة القمع والارهاب التى مورست ضد العناصر الوطنية وعائلاتهم وأصدقائهم وأقاربهم داخل ليبيا وخارجها طيلة الاربعين عاما الماضية من عمر النظام واكتسب أهميتـة الخاصة لأنـه صيغ على لسان ” شاهـد عيـان ” رأى بـأم عينيـه عن قرب أنـواع التعذيب التى مورست بمنتهى القسوة والوحشية فى حق مواطنيين ليبيين  ، وأبدع الكاتب فى نقل تلك الصور البشعة لمشاهد التعذيب والتحقيقات ووسائل القمع الوحشية التى استخدمت الى درجة أنه لم يغفل صغيرة ولا كبيرة  الا اأردها ، وذكر حتى اسماء المعتقلين من هؤلاء الضحايا من الطلبه والرياضيين ورجال الأعمال والعسكريين ، الذين غصت بهم قاعات وحجرات المعتقل الرهيب ، كما لم يغفل أيضا ضمن هذا الإطار ذكر أسماء المجرمين الذين مارسوا صنوف وأنواع التعذيب أو من قاموا بشن حملات الإعتقال أو التحقيقات، وأورد الي جانب كل ذلك وصفاً دقيقاً لهذا المعتقل البشع الرهيب شمل مداخله ومخارجه وبواباته وكافة تحصيناته وماكان يتم داخله من جرائم التعذيب ضمن أسلوب مؤثرجداً يغلف الاوضاع فى مدينة بنغازي بسحابات سوداء من الكآب والآسي والحزن

كانت بدايـة معرفتى بمؤلف كتـاب ” نماذج من جرائـم القـذافى” الزميل المرحـوم عبد الناصر مسعـود دريـزة فى العاصمة اليونانية أثينا عـام 1982، وكان المرحـوم كما عرفته شابا وسيما أنيقـا معتـدل القـوام لـم يتعـدى الخامسة والعشريـن مـن عمره، يتقـد نشاط وحيوية ، ويوحى تناسق جسمه تمتعه بصحة جيـدة ، التقيتـه عـن طريـق الصدفـة خلال دعـوة على العشاء فى بيت صهـره الزميل الفاضل الأستاذ علي فضيل الموظف التابع لشركة الأستثمارات الليبية ، وشاءت الصدف أن يكـون مجلسى خلال ذلك اللقـاء في جلسة العشاء بقربـه ، فتبادلنا عبارات التعارف والمجاملة المعهودة ، ثم قادنا النقاش والحوار خلال تلك السهرة الجميلة الممتعة التي أعقبت العشاء الحاتمى في بيت زميلنا على فضيل الى الحـديث عن هموم الوطن وومشاغله ومشاكله، وامتد بنا الحوارالشيق حتى ساعات متأخـرة من ذلك المساء ، وافترقنا بعد أن ودع كل منا الآخر على امل ان  نجدد هذا اللقاء ، وتم فعلا بينى وبين المرحوم عبد الناصر بعـد ذلك عـدة لقاءات متكررة فى عـدة أماكن من العاصمة اليونانية وكان كلما يسافرالى ليبيا يعـود الى اليونان وفى جعبته الكثير الكثير عن اخبار الوطن

وتطورت صداقتنا تطورا كبيرا وأحس كل منا بتمام الثقة اتجاه صاحبه ، وكان لقاؤنا دائما يتم بمنتهى السرية  فى اماكن معينة نتبادل فيها المعلومات وآخر أخبار الوطن .. وفى إحـدى هـذه اللقاءات دفع لى على غير توقع بكراسة من كراريس مدارس الاطفال وطلب منى الإطـلاع على محتـواها فى البيت على راحتى (حسب تعبيـره) ، على ان أوافيـه با لرأى فيما أحتوته من معلومات  واحداث هامة كان قد دونها  بين صفحات ذلك الكراس ، وهاتفنى فى اليوم الثانى فى منزلى مستفسرا منى عما اذا كنت قد القيت نظرة ولو سريعة على محتوى تلك الكراسة، فاجبته بالايجاب، وحددنا موعدا للقــاء بيننا في إحدى الكافيتيريات لمناقشة ما ورد فيها بتأنى وروية ، وكان محتوى تلك الكراسة هو ما ورد فى كتاب “نماذج من جرائم القذافى” وهو ما رآه المرحوم  الأستاذ د عبد الناصر رأى العين من صور التعذيب والتنكيل بالمواطنين الليبىن من طلبه وتجار ورجال اعمال  داخل معسكر 7 ابريل ،  حيث قام بتدوين ما شاهده من تلك الأحداث  البشعة وتلك الصور المؤلمة بقلمه بكل دقة وشفافية مدعومة بالأسماء والتواريخ والمواقع  وحتى أدوات ووسائل التعذيب داخل ذلك المعسكراللعين الذي تمكن المرحوم من دخوله صحبة أحـد أعضاء اللجـان الثوريـة

قلت لأخى عبد ناصر عند لقائي به في احد الكافتيريات المنزوية التي التقينا بها في احد ضواحي العاصمة أثينا في منطقة كيفيسيا  بعـد أن كنت قد أطلعت على فحوى كراس مذكراته .. هذه المعلومات التي  دونتها أخى عبد الناصر مرعبة جـدا جدا وخطيرة وفى غاية الأهمية والسكوت عنها او تجاهلها لا يجـوز مطلقا ، بل يجب أن نتصرف بإيصالها الى علم الراى العام الليبي والأجنبي ، فابتسم وقال لى  لهذا  السبب أخى عاشور دونتها وكتبتها هنا في اليونان بمنتهي السرية،  ولـم أجـد من أثـق به لكى أطلعه عليها سواك ، وأملي كبير جدا  في مساعدتك بنشرها باى وسيلة ترها عملية ومناسبة…..وأجبته وانا اشاهد في عينيه وفى ملامح وجهه علامات الاسى والالم ، بكل تأكيد يسرنى القيام بذلك علما بأننى  أخى عبد الناصر بعد أن قمت بمراجعتها أقترح عليك أن تحذف منها بعض التواريخ وكذلك بعض النقاط والفقرات أو التعليقات لانها بصراحة اذا لم يتم حذفها  او تعديلها قد تتخذ خيوطا يستطيع رجال الأمن من خلال فحصها ومتابعتها الوصول الى معرفة شخصيتك ، فلم  يمانع في ذلك  تاركا الأمر لى وفق ما قررته وأقترحت عليه ضمن هذا الاطار أيضا أن أجمعه مع شخصية وطنية ليبية من زعامات المعارضة الليبية فى الخارج  لكى نعرض عليه هذه المذكرات ونطلب دعمه ان امكن بطباعتها ونشرها  

ومن منطلق ثقته الأستاذ عبد الناصر في شخصي أعرب لى عن موافقته التامة على أي تعديلات رأيت إجرائها من باب الحرص على أمنه الشخصى وأن تضل شخصيته مجهولة ، كذلك  ابدى موافقته على اللقاء باى شخصية وطنية ليبية تتمتع بثقتي من اجل انجاز طباعة ونشر وتوزيع هذه المذكرات ، وبعد حوار مستفيض بينى وبينه، خلال ذلك اللقاء أفدته بصراحة  بان تلك الشخصية المعارضة التي اقترحت عليه اللقاء بها التى نامل ان  تتولى مسؤلية طباعة المذكرات  حاليا غير متواجدة في اليونان وانما هي مقيمة في عاصمة احد البلاد العربية فوافق دون تردد على الإلتقاء بها أينما كانت

كانت تلك الشخصية التي أقترحت على المرحوم اللقاء بها في اليونان هو الأستاذ الفاضل محمد احمد السكر امين الحركة الوطنية الليبية المعارضة خلال تلك الفترة و الذي كان يتردد  باستمرارعلى الساحة اليونانية للأتصال مع عدد من منتسبى الحركة الوطنية ، ومتابعة نشاطاتهم  ، وتمكنت عن طريق  أحـد الزملاء باليونان  ممن ينتسبون للحركة الوطنية الاتصال بـه هاتفيا في بغـداد العاصمة العراقيه ، وتم احاطته باقتضاب عن إمكانية حضوره الى اليونان ، فأفادني عن طريق الصدفة  بانه قادم فعلا الى أثينا خلال أسبوع من تاريخ المكالمة  بيننا ، وانه يسعـده جـدا ان يلتقى بالمرحوم عبد الناصرفى حضورى ” ان امكن ” لمناقشة الموضوع ، وتم الاتفاق بيننا على ان يكون اللقاء بمنزل احد الاخوة من  منتسبى الحركة الوطنية الليبية في اليونان ، وهناك داخل منزل  عضو الحركة الوظنية باليونان تم التعارف بين الأستاذ محمد السكر والمرحوم عبد الناصر  الذي سلمه يدا بيد  مذكراته بحضورى .. وخرجنا من ذلك اللقاء بعد ان استلم الأستاذ محمد السكر المذكرات المعنونة باسم نماذج من جرائم القذافي  للاطلاع عليها  اتفقنا على لقاء ثانى  بنفس المكان  في اليوم التالى ، وداخل ذلك اللقاء تم الإتفاق بين المرحوم عبد الناصر  والأستاذ محمد السكرعلى أن يسافر المرحوم عبد الناصر دريزة الى بغداد للاشراف بنفسه على  تسليم المذكرات هناك  بيده للجهة التي سوف تتكفل بالطباعة وهى دار ” الحرية  ” للطباعة والنشر ببغداد و التي كانت تقـدم الدعم للحركة الوطنية الليبية .واشرف أيضا على طباعة

هذه هى قصتي مع  كتاب ” نماذج من جرائم القذافي” الذى نشر ووزع خلال فترة سلطة النظام السابق في ليبيا  تحت اسم مؤلفه ” شاهـد عيان ” وحاول النظام السابق  طيلة ربع قرن الوصول الى معرفة شخصية مؤلف الكتاب ولكنه فشل الى حد ما ولم  يتمكن من ذلك الا بعد فترة طويلة عندما حامت الشكوك حول شخصية المرحوم عبد الناصر وربما تـم معرفته عـن طريـق أحـد زملائه المقربين باللجـان الثوريـة في ليبيـا ممن رافقوه في جولته داخل معتقل السابع من ابريل ،  ويتضح ذلك عندما دعـى من قبل زميل له زيارة ليبيا وحضور الحفل الذي أقيم في مدينة سرت بحضور العقيد معمر القذافي وعدد من المدنيين والعسكريين المقربين جدا وعلى راسهم احمد إبراهيم

ويقال والعهدة على الرواة انه تعرض خلال تلك المناسبة الى التسمم  وانه استدعى احد الأطباء  للاشراف على حالته الصحية ، ويقال انه حقنه بمضاد حيوى او ما شابه ذلك …. ومنذ ذلك التاريخ تدهـورت الحالة الصحية للشاب عبد الناصر الذي كان يتقـد نشاط وحيوية الى المعاناة من مرض عضال في عضلة القلب نقل على اثر ذلك من قبل صهره في أثينا  الأستاذ على فضيل الى لندن في بريطانيا للعلاج علي يد أخصائي شرايين القلب المشهور الطبيب المصرى مجدى يعقوب الذي بذل جهده ولكن امر الله نفذ ولارادا لقضائه …..رحم الله أخى الأستاذ عبد الناصر عمر مسعود دريزة  مثال الوطنية والتضحية الصادقة في حب الوطن

والمرحوم عبد الناصردريزة  شاهد العيان  الذي ألف كتاب نماذج من جرائم القذافي من مواليد مدينة المرج بليبيا ، كان طفلا رضيعا عندما حدث زازال المرج  في 21 فبراير 1963 الذي دمر جل مساكن مدينة المرج وأودى بحياة عدد كبير من سكان تلك المدينة الهادئة الآمنة ، وكان المرحوم عبد الناصر الوحيد من بين افراد أسرته الذي نجى بقدرة الخالق من الموت الذي طال والدته واثنان من اشقائه في وقت لم يكن والده متواجدا بالمرج عند حدوث ذلك الزلزال ، وسبحان الله وجد الطفل عبد الناصر حيا وقد احتضنته  المرحومة امه  مردوما تحت كومة من التراب والحجارة… وعاش عبد الناصرمنذ طفولته  يتيم الام، ووالده كان رجل بسيط يعمل سائق على سيارة اجرة

وبالرغم من ان عبد الناصر اثناء شبابه  كان محاطا  باصدقاء اغلبهم كان منظما للجان الثورية فقد استطاع رغم احتكاكه بهم أن يكون بعيدا عنهم دون ان يفقد صحبتهم او يثير غضبهم ….وقد أتاح ذلك فرصه الاختلاط بهم عن قرب  واصبح محل ثقة منهم دون ان يلوث نفسه بافعالهم السيئة وتمكن  من خلال هذه العلاقات معهم من  الاطلاع عن كثب على تحركاتهم ونواياهم ومعرفة العديد من اسمائهم السرية والحركية وكان يدون كل هذا  بحرص وبصدق داخل مذكراته اولا بأول

رايت اليوم بعد  بعد زوال ذلك النظام  الذي كان قد كمم الافواه أن أعيد للمرحوم الأستاذ عبد الناصر مسعود  دريزة  صاحب هذا المؤلف حقه فيما حاولنا إخفاءه طيلة ربع قرن خوفا على حياته وحياة اسرته واقاربه، الذين عليهم اليوم أن يفخروا بهذا الاسم عبد الناصر مسعود دريزة  مؤلف كتاب “نماذج من جرائم القذافى” والشكر والتقدير  لكل الأسماء الوطنية التي كانت مجهولة وراء اخراج هذاالكتاب واشهاره وتوزيعه  وهم السادة  ” محمد سالم الدموسى  والأستاذ أحمد المزداوى و المرحوم المبروك الغنودي  والأستاذ محمد السكر آملا ان تعاد طباعته ليحمل من جديد اسم مؤلفه وهذه الأسماء الوطنية الرائعة التي ساهمت في إخراجه  

About Ashour 66 Articles
A Libyan Carrier Diplomat - Writer & Journalist